فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا ترى الضب بها ينجحر

وقولك: ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لاشجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق.
وادعى بعضهم أن الظاهر أن: {كَانَ} تامة، و: {أُوْلُو بَقِيَّتُ} فاعلها، وجملة: {يَنْهَوْنَ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} حال متقدمة عليه، و: {مِنْ} تبعيضية، و: {مِن قَبْلِكُمْ} حال من: {القرون}، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناءًا على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضًا ونفيًا، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدًا في الكلام؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله بعد من النصب: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} وهم تاركو النهي عن الفساد.
{مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} ما انعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة.
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل: {أُتْرِفُواْ} أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ففي إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الاجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم: {الذين ظَلَمُواْ} على ما يعم تركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال: وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والأجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبي حيان مستأنفة لخبار عن حال هؤلاء: {الذين ظَلَمُواْ} وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفًا على مقدر دل عليه الكلام أي لم ينهوا: {واتبع} إلخ.
وقيل: التقدير إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد: {واتبع الذين} إلخ، وأن تكون استئنافًا يترتب على قوله سبحانه: {إِلاَّ قَلِيلًا} أي إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الاظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لادراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللاشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على: نهو الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرًا أيضًا مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهو جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: {...} جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: {فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} عطف على: {اتبع الذين} إلخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيريًا على معنى: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على: {أُتْرِفُواْ} على معنى اتبعوا الاتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب التقريب بقوله: وفيه نظر لأن ما في: {مَا أُتْرِفُواْ} موصولة لا مصدرية لعود الضمير من: {فِيهِ} إليه، فكيف يقدر: {كَانُواْ} مصدرًا إلا أن يقال: يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة: {ظَلَمُواْ} فتكون: {مَا} مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضًا بناءًا على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.
وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو، وفي رواية الجعفي: {واتبع} بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، قيل: ولابد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و: {مَا} إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر، والمعنى على الأوّل: {إِلاَّ قَلِيلًا} نجيناهم وقد هلك سائرهم، وأما قوله سبحانه: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} فقد قالوا: إنه لا يحسن جعله قيدًا للانجاء إلا من حيث أنه يجري مجرى العلة لاهلاك السائر فيكون اعتراضًا، أو حالًا من: {الذين ظَلَمُواْ} والحال الأول من مفعول: {أَنجَيْنَا} المقدر، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضًا في القول الشائع كأنه قيل: {أَنجَيْنَا} القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل: فاعل اتبع ما اترفوا أو الكلام على القلب فتدبر.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي، وقوله سبحانه: {بِظُلْمٍ} أي ملتبسًا به قيل: هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنًا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة، وقوله جل وعلا: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حال من المفعول والعامل فيه عامله، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الاهلاك ظلمًا بحال كون أهلها مصلحين، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقًا عن ذلك، وهذا ما اختاره ابن عطية، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لابد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادًا وتباغيًا وذلك لفرط رحمته ومساحته في حقوقه سبحانه، ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولًا أوليًا ولذلك كان ينهي كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي، فالوجه كما قال: حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون البعض متصديًا للنهي.
والبعض الآخر متوجهًا إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى، لكن أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فقال عليه الصلاة والسلام: «وأهلها ينصف بعضهم بعضًا» وأخرجه ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق عن جرير موقوفًا، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فالأمر مشكل، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض كما ترى فافهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
هذا قوي الاتّصال بقوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك} [هود: 102] فيجوز أن يكون تفريعًا عليه ويكون ما بينهما اعتراضًا دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة.
والمعنى فهلاّ كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حلّ بهم ما حلّ.
وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر.
ويجوز أن يكون تفريعًا على قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا، إذ المعنى: ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرّسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حلّ عليهم غضب الله إلاّ قليلًا منهم، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنّه في موقع التفصيل والتعليل لجملة: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] وما عطف عليها؛ كأنّه قيل: وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فَلَوْلاَ كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم، وكونوا مستقيمين ولا تَطغوا ولا تركنوا إلى الظّالمين وأقيموا الصلاة، فغُيّرَ نظمُ الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعمّمها.
وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كردّ العجز على الصدر من غير تكلّف ولا ظهور قصد.
ويقرب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وَمَا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم».
ولولا حرف تحضيض بمعنى هلاّ.
وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلاّ تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم.
والقرون: الأمم.
وتَقَدّم في أوّل الأنعام.
والبقية: الفضل والخير.
وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأنّ شأن الشيء النفيس أنّ صاحبه لا يفرط فيه.
وبقيّة الناس: سادتهم وأهل الفضل منهم، قال رويشد بن كثير الطائي:
إنْ تذنبوا ثم تأتيني بقيّتكم ** فَمَا عليّ بذنب منكم فوت

ومن أمثالهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا.
فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال: في فلان بقية، والمعنى هنا: أولُو فضل ودين وعلم بالشريعة، فليس المراد الرّسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
والفساد: المعاصي واختلاف الأحوال، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حلّ ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم.
وفي هذا تنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنّهم أولُو بقيّة من قريش يدعونهم إلى الإيمان حتى آمن كلّهم، وأولُو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلّمون الدين، كما قال تعالى فيهم: {كنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110].
وفي قوله: {من القرون من قبلكم} إشارة إلى البشارة بأنّ المسلمين لا يكونون كذلك ممّا يومئ إليه قوله تعالى: {مِن قبلكم}.
وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر {بِقْية} بكسر الباء الموحّدة وسكون القاف وتخفيف التّحتية فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلّها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيّل السمت والوقار.
و: {إلاّ قليلًا} استثناء منقطع من: {أولُوا بقيّة} وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم: {أولوا بقيّة} ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل، وهو في معنى الاستدراك لأنّ معنى التحْضيض متوجّه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين يُنعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم.
وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد، ولكن لمّا كان معنى التحضيض قد يوهم أنّ جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقيّة كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام، فصار المستثنى غيرَ داخل في المذكور من قبل، فلذلك كان منقطعًا، وعلامة انقطاعه انتصابه لأنّ نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح.
وهل يجيء أفصح كلام إلاّ على أفصح إعْراب، ولو كان معتبرًا اتّصاله لجاء مرفوعًا على البدلية من المذكور قبله.
و(مِن) في قوله: {ممن أنجينا} بيانيّة، بيان للقليل لأنّ الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد، وهم أتباع الرسل.
وفي البيان إشارة إلى أنّ نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأنّ النهي سبب السبب إذ النهي يسبّب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة.
ودلّ قوله: {ممّن أنجينا منهم} على أن في الكلام إيجازَ حذففٍ تقديره: فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مسّ النار الذي لا دافع له عنهم.
وجملة: {واتّبع الذين ظلموا} معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله.
والمعنى: وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتّبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى: {فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34] تفصيلًا لمفهوم الاستثناء.
وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنّهم لا يخلون من ظلم أنفسهم.
واتباعُ ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتّبِع على متبوعه.
وأترفوا: أعطوا التّرف، وهو السعة والنعيم الذي سهّله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه.
و: {كانوا مجرمين} أي في اتّباع الترف فلم يكونوا شاكرين، وذلك يحقّق معنى الاتّباع لأنّ الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتّباع بل هو تمحّض وانقطاع دون شوبه بغيره.
وفي الكلام إيجاز حذف آخر، والتقدير: فحقّ عليهم هلاك المجرمين، وبذلك تهيّأ المقام لقوله بعده: {وما كان ربك ليهلك الْقُرى بظلم} [هود: 117].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
عطف على جملة: {واتّبع الذين ظلموا ما أتفرفوا فيه} [هود: 116] لما يؤذنه به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرّض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممّن نزل به منهم لم يكن ظلمًا من الله تعالى ولكنهم جرّوا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحبّ الفساد.
وصيغة: {وما كان ربك ليهلك} تدل على قوة انتفاء الفعل، كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب} الآية في [آل عمران: 79]، وقوله: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ} في آخر [العقود: 116] فارجع إلى ذينك الموضعين.
والمراد بـ {القرى} أهلها، على طريقة المجاز المرسل كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
والباء في: {بظلم} للملابسة، وهي في محل الحال من: {ربّك} أي لمّا يهلك النّاس إهلاكًا متلبسًا بظلم.
وجملة: {وأهلها مصلحون} حال من: {القرى} أي لا يقع إهلاك الله ظالمًا لقوم مصلحين.
والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله: {ينهون عن الفساد في الأرض وقوله وكانوا مجرمين} [هود: 116]، فالله تعالى لا يُهلك قومًا ظالمًا لهم ولكن يُهلك قومًا ظَالمين أنفُسَهُمْ.
قال تعالى: {وما كنّا مُهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون} [القصص: 59].
والمراد: الإهلاك العاجل الحالّ بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناءُ أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ}